المادة    
والجديد في كلام الشيخ قوله: بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف عند المناطقة بأنه: حيوان ناطق، وهذا التعريف معترض عليه عقلاً وليس فقط شرعاً، لكن المقصود أنهم يقولون: إن حقيقة الإنسانية عند المناطقة هي اجتماع أمرين: الحيوانية، والناطقية، فـ(حيوان) جنس، و(ناطق) فصل، واجتماع الجنس والفصل به يكون التعريف، والجنس أعم شيء، فحيوان عام يعم كل ذي حياة، والفصل هو الذي يحدد المميز الذاتي وهو الناطقية، فالإنسان يختلف عن غيره من الحيوان، ويتميز بالناطقية مع اتفاقه معهم في الحيوانية، والمقصود بالنطق هو الفكر وليس فقط الكلام، إذاً يا من تدرسون علم المنطق تقولون: إن حقيقة الإنسانية هي باجتماع الجنس والفصل -العام والخاص- فلو عرفنا الإنسان وقلنا: إنه حيوان، قلتم هذا التعريف باطل؛ لأنه تعريف بالجنس فقط ولا يكفي ذلك، وبالتالي لا بد أن نقول: حيوان، ونضيف إليها: ناطق، وهذا على كلامهم وهو الشاهد، والمرجئة يقولون: إن الإيمان قول فقط، ولا يقولون: قول وعمل، فنقول: هذا مثل هذا، فلو قلنا: إن الإيمان قول لكان ذلك إخلالاً ونقصاً وخطئاً، وبالتالي لا بد أن نقول: الإيمان قول وعمل، وهذا هو المقصود به، أو لأن التصديق التام إذا وقع حقيقة في قلب العبد فإنه مستلزم ولا بد لأعمال الجوارح، ولو قال أحد: أنا مصدق تصديقاً حقيقياً كاملاً بيقين، لكان ذلك لا بد أن يستلزم عمل الجوارح والقلب؛ فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتقاء اللازم دليل على انتقاء الملزوم.
وبالتالي إذا وجدنا من لا يطيع الله، ولا يمتثل أوامر الله، ولا يترك ما حرم الله، وقال: إن لدي إيمان في قلبي، فنقول: أين هذا الإيمان؟ إن انتقاء اللازم يدل على انتقاء الملزوم؛ لأنه إن وجد الإيمان فلا بد أن يظهر لازمه، ولنفرض أن الخلاف لفظي، وأننا نقول: الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان، فألستم تقرون على أنها لازمة لهم ولا بد، إذا وقع تاماً وكاملاً في القلب، ولو أن الأمر مجرد خلاف: هل يقال: إنها إيمان أو لازم إيمان لكانت لفظية، لكن المرجئة يخرجونها من الإيمان، وتقولون: يمكن أن يقع الإيمان تاماً وكاملاً بغير عمل الجوارح، ونحن نخالف في هذا ونقول: لا يمكن أبداً ولا يصح بحال، بل لا بد من تحقق القدر من العمل في الواقع، وذلك إذا كان القلب حقاً مشتملاً على الإيمان التام الكامل كما تدعون، وبمقدار ضعف العمل نعلم ضعف الإيمان، وبمقدار نقص العمل أو الإخلال فيه نعلم أن ذلك أثراً من آثار ما في الإيمان من نقص إلى آخره.
ونقول: إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، وهذا امتداد لقوله في معنى التصديق: أنه هب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه في كل المواضع؟ لنفرض أن هذه اللوازم لا تدخل أحياناً في مسمى اللفظ، لكنها تدخل أحياناً أخرى، فهي لوازم، سواء دخلت في مسمى اللفظ أو لا، ولو اتفقنا نحن وأنتم على هذا لظل النزاع مجرد نزاع لفظي، فهل يشملها اللفظ أو لا يشملها؟ لكن نقول أيضاً بالنسبة للعطف: لو فرض أن العطف للمغايرة، وأن قول الله تبارك وتعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[الشعراء:227]، فيكون العمل غير الإيمان، فنقول: أحياناً هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ كما في حالة عدم العطف، مثل قول الله تبارك وتعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ))[البقرة:143]، أي: صلاتكم، فهي داخلة فيه ولا عطف هنا، وقد نقول -فرضاً- كما تقولون: يأتي العطف فيخرجها من اللفظ، أليست لوازم؟ نعم هي لوازم ولا بد منها، ثم يقول: أو أن اللفظ باق على معناه، وهذا لا إشكال فيه، أي: كون اللفظ باق على معناه في اللغة التصديق، أو الصلاة معناها في اللغة الدعاء، وهي في الشرع أيضاً دعاء، لكن الشارع زاد فيها أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي على قول من يقولون: بالمجاز، ونحن ننكر ذلك، وبالذات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان ، فقد أبطل المجاز، ثم توسع فيه تلميذه الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله أيضاً في الصواعق المرسلة ، فهو باطل، وهو الحق، لكن نقول تنزلاً معكم وعلى اصطلاحكم: لنفرض أنكم تقولون: إن الكلمة لها حقيقة لغوية، وأن لها معنىً مجازياً، فجاء الشارع واستعمل الكلمة في المعنى المجازي على كلامكم، فيضل أيضاً.
اصطلاح الشرع -ولو كان مجازاً- هو المعتبر والمأخوذ به، وأنتم تقولون: إن المجاز جائز وسائغ، ولك أن تستخدمه بشروطه وبقواعده.
ولنفرض أن الإيمان في لغة العرب هو التصديق، وأن إطلاقه على الأعمال مجاز في اللغة، فجاء الشارع فاستخدمه وأطلقه على الأعمال، فيكون حقيقة شرعية، مجازاً لغوياً، وهذا على سبيل التنزل، وإلا فلا إشكال أن تكون الكلمة من حيث اللغة مجازاً، ومن حيث الاصطلاح حقيقة، وبالتالي بطلت شبهتهم في قولهم: إن ذلك مجازاً، أو أن يكون الشارع قد نقله، يقول رحمه الله: وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق. وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام إيضاح وشرح لهذا.